عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

يقال : وقذتها أقذها وقذا فهي وقيذ. وموقوذة : إذا أثخنتها ضربا. ووقذت الرجل : ضربته حتى مات. ووصفت عائشة رضي الله تعالى عنها أباها فقالت : «كان وقيذ الجوانح» (١) أي حزين القلب ، والجوانح تجنّ (٢). كذا روي هذا بالذال المعجمة. ولو روي بها مهملة لكان أحسن ؛ من وقيد النار. تصفه بأنه كان لشدّة حزنه كالمحرق الجوف. ويؤيد ما قلته أنه يقال : كان يشمّ من فيه رائحة كبد مشوية. ووجه الرواية الأولى أنّ الحزن قد كسره وأضعفه بمنزلة من ضرب فضعف. وفي حديثها أيضا تصفه : «فوقذ النّفاق» (٣) أي كسره ودمغه.

و ق ر :

قوله تعالى : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ)(٤) الوقر بالفتح : الثّقل ، والوقر بالكسر : الحمل. ومنه : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)(٥). وقيل : الوقر للحمار والبغل كالوسق للبعير ؛ فهو فعيل بمعنى مفعول. يقال : وقرت أذنه تقر ، وتوقر وقرا : إذا صمّت (٦). ووقرت فهي موقورة. ونخلة موقرة وموقرة ؛ بالفتح والكسر.

قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)(٧) أي عظمة. والرجاء هنا الخوف. وأصل الوقار السكون والحلم ؛ يقال : هو وقور ووقار ومتوقّر. وفلان ذو وقرة. قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)(٨) جعله بعضهم من الوقار. وقيل : هو من : وقرت أقر ، أي جلست. وفي الحديث : «ووقير كثير الرّسل» (٩). قال يعقوب : الوقير : أصحاب الغنم. والقرة والقار : الغنم. وقال أبو عبيد : القار الإبل ، والقرة والقار : الغنم. واستشهد بعضهم لذلك بقول مهلهل (١٠) : [من الوافر]

__________________

(١) النهاية : ٥ / ٢١٣.

(٢) يريد : تجنّ القلب.

(٣) النهاية : ٥ / ٢١٣. وفي رواية : الشيطان.

(٤) ٥ / فصلت : ٤١.

(٥) ٢ / الذاريات : ٥١.

(٦) وفي الأصل : إذا أنفت. ولعل السياق ما ذكرنا ، بعد مراجعة المادة في المعاجم.

(٧) ١٣ / نوح : ٧١.

(٨) ٣٣ / الأحزاب : ٣٣.

(٩) النهاية : ٥ / ٢١٣. والمعنى أنها كثيرة الإرسال في المرعى.

(١٠) الشاهد في اللسان ـ مادة تبع.

٣٨١

كأنّ التابع المسكين فيها

أجير في حدايات الوقير

قال بعضهم : سمي القطيع من الضأن وقيرا كأنّ فيه وقارا لكثرته وبطء سيره.

و ق ع :

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)(١) أي وجب وثبت. والوقوع في الأصل : ثبوت الشيء واستقراره. ومنه قول أبي زيد : [من البسيط]

واستحدث القوم أمرا غير ما فهموا

فطار أنصارهم شتّى وما وقعوا

أي ما ثبتوا.

أو يعبّر به عن السقوط ؛ يقال : وقع الطائر ، أي سقط. وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ «وقع» جاء في العذاب والشدائد ، نحو قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ)(٢). والواقعة لا تقال إلا في الشدائد والمكروه ، نحو : أصابتهم واقعة. وعليه (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) لأنّها عبارة عن يوم القيامة ، ولا شدّة أعظم من شدّته. نسأل الله الأمن فيه من عذابه.

قوله : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)(٣) ووقوع القول عبارة عن وقوع متضمنه ، أي وجب العذاب الذي وعدوا به. قوله : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(٤) عبّر بالوقوع عن إثابة الله تأكيدا لذلك ، لا أنه يجب عليه ؛ إذ لا يجب عليه تعالى شيء (٥) ، إنما هو تفضّل وامتنان. وهكذا قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(٦).

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ)(٧). قيل : هي نجوم القرآن بدليل : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٨). وقيل : هي الأنواء ، ومواقع الغيم : مساقطه. والمواقعة : يكنى بها عن

__________________

(١) ٨٢ / النمل : ٢٧.

(٢) ١ / الواقعة : ٥٦.

(٣) ٨٥ / النمل : ٢٧.

(٤) ١٠٠ / النساء : ٤.

(٥) أي : لا يسأل عمّا يفعل.

(٦) ٤٧ / الروم : ٣٠.

(٧) ٧٥ / الواقعة : ٥٦.

(٨) ٧٧ / الواقعة : ٥٦.

٣٨٢

الجماع ، وكذا الإيقاع. ووقعت الحديدة أقعها وقعا : إذا حدّدتها بالميقعة. والوقيعة : الغيبة مجازا. والوقيعة أيضا : المكان المستنقع فيه الماء ، والجمع الوقائع (١). والتّوقيع : أثر الدّبر في ظهر البعير. ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه : «من يدلّني على نسيج وحده؟ فقالوا : ما نعلمه غيرك. فقال : ما هي إلّا إبل موقّع ظهورها» (٢) يهضم نفسه ويقول : أنا مثل تلك الإبل عيبا. وكان رضي الله تعالى عنه مبرّأ من العيوب. وعنه استعير التّوقيع في الكتابة لظهور أثرها.

و ق ف :

قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(٣) أي احبسوهم عن المشي. ومنه : وقفت الدابّة أقفها وقوفا ووقفا. وقال بعضهم : وقفت القوم أقفهم وقفا ، ووقفوا وقوفا. والوقوف يكون جمعا. وقد قيل في قول امرىء القيس (٤) : [من الطويل]

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل

يجوز الأمران كما أوضحنا في غير هذا. ومنه استعير : وقف الأعيان تصدّقا ، لأنّه حبسها عن التصريف الذي كان له. وأوقف لغيّة ضعيفة. وفي الحديث : «المؤمن وقاف متأن» (٥) كالتأكيد ؛ فإنه هو الوقّاف في الأمور غير العجل. وهذا ينظر إلى قول الآخر : [من البسيط]

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

والوقّاف : الجبان عن الحرب. ومنه قول دريد بن الصّمة (٦) : [من الطويل]

فإن يك عبد الله خلّى مكانه

فما كان وقّافا ولا راعش اليد (٧)

__________________

(١) وفي الأصل : المواقع ، والتصويب من المفردات : ٤٣٠.

(٢) النهاية : ٥ / ٢١٥.

(٣) ٢٤ / الصافات : ٣٧.

(٤) الديوان : ٢٩ ، من معلقته.

(٥) النهاية : ٥ / ٢١٦.

(٦) ديوان دريد : ٤٩.

(٧) وفي الديوان : ولا طائش اليد.

٣٨٣

وفي الحديث : «ولا واقفا في وقّيفاه» (١) الواقف : خادم البيعة. والوقّيفى : الخدمة. والوقف : سوار العاج. وحمار موقف بأرساغه مثل الوقف من البياض كقولهم : فرس محجّل : إذا كان به مثل الحجل. وموقف (٢) الإنسان حيث يقف. والمواقفة : أن يقف كلّ واحد منهم على ما يقف عليه صاحبه. والوقيفة الوحشية : التي يجلبها الصائد إلى أن تقف إلى أن تصاد.

و ق ي :

قوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٣). التّقوى : مصدر على فعلى فأبدلت فاؤها تاء ولامها واوا ، لأنّها من وقى يقي. فأصلها وقيا. يقال : وقاه يقيه وقاية. والوقاية : فرط الصّيانة. قال ابن عباس في قوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) : يقول الله تعالى : أنا أهل أن أتّقى فإن عصيت فأنا أهل أن أغفر. وقيل : الوقاية : حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، كقوله تعالى : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ)(٤).

والتّوقّي : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف ، هذا تحقيقه (٥). ثم يسمّى الخوف تارة تقوى ، والتّقوى حسب (٦) المقتضى لمقتضيه والمقتضي لمقتضاه. قال الراغب (٧) : وصارت التّقوى في تعارف الشّرع حفظ النفس مما يؤثم ، وذلك بترك المحظور ، و [يتمّ](٨) ذلك بترك بعض المباحات لما روي : «الحلال بيّن والحرام بيّن ، ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه» (٩).

قوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ)(١٠) تنبيه أنّه لا شدّة أشدّ ممّا ينالهم ، وذلك

__________________

(١) النهاية : ٥ / ٢١٦ ، وفيه من كتابه لأهل نجران : «وألا يغير واقف من وقيفاه».

(٢) وفي الأصل : في موقف ، وهو سقط قلم.

(٣) ٥٦ / المدثر : ٧٤.

(٤) ١١ / الإنسان : ٧٦.

(٥) وفي الأصل : حقيقته.

(٦) وفي الأصل : خشية ، ولعلها تحريف الناسخ.

(٧) المفردات : ٥٣٠.

(٨) إضافة من المفردات.

(٩) رواه البخاري في الإيمان ، ٣٩.

(١٠) ٢٤ / الزمر : ٣٩.

٣٨٤

أنّ سائر الأعضاء يتّقى بها عن الوجه ، وهؤلاء لشدّة ما ينالهم يتّقون بما هو أشرف الأعضاء. يقال : اتّقى فلان بكذا : إذا جعله وقاية لنفسه. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١) أي لعلّكم أن تجعلوا ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. ومنه قول العرب : اتّقاه بحقّه ، أي جعله وقاية من المطالبة والمخاصمة. قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(٢). تقاة مصدر بمعنى الاتّقاء. والمعنى : إلا أن تتّقوا منهم تقيّة ، أي مخافة. يقال : اتّقاه يتّقيه اتّقاء وتقاة وتقية. وقد قرىء «تقيّة» موضع «تقاة» (٣). والتّقاة والتّقية اسمان بمعنى الاتّقاء. وقال ابن عرفة : أي يكون لهم عهد أو ذمام أو رحم فيخالفون على ذلك ويحاملون عليه. وقيل : تقاة جمع كغزاة ورماة. ولهذين القولين موضع هو أليق من هذا. وأمّا قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٤) فهو مصدر ليس إلا ، ومعناه : اتّقوه على نحو ما أمركم ونهاكم. وليس فيه تكليف بما لا يطاق ، لكنّه قلّ من يتّقي الله حقّ تقاته ؛ فإنّ ذلك لا يوجد إلا في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومن لطف الله به ووفّقه. اللهمّ بجاه كتابك وكتبك ونبيّك وأنبيائك اجعلنا من الحزب الذين يتّقونك حقّ تقاتك.

وجمع التّقوى تقاوى نحو فتوى وفتاوى. وجمع التّقاة تقى نحو طلاة وطلى (٥). والمتّقي اسم فاعل من اتّقى يتّقي ، أي أفرط في الصيانة. والأصل موتقي ، فأبدلت الواو تاء ، وفي الحديث : «كنا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٦) أي جعلناه وقاية لنا من العذاب. ومنه قول عنترة (٧) : [من الكامل]

إذ يتّقون بي الأسنّة لم أخم

عنها ، ولكنّي تضايق مقدمي

أي يتّقون بي حرّ القتال.

__________________

(١) ٢١ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) ٢٨ / آل عمران : ٣.

(٣) ذكر الفراء أن «تقاة» هي أكثر كلام العرب وقرأه القراء. وذكر عن الحسن ومجاهد أنهما قرأا «تقيّة» وكلّ صواب (معاني القرآن : ١ / ٢٠٥).

(٤) ١٠٢ / آل عمران : ٣.

(٥) وذكر ابن الأعرابي أن هذين الحرفين نادران.

(٦) النهاية : ٥ / ٢١٧.

(٧) الديوان : ١٥٣.

٣٨٥

فصل الواو والكاف

و ك أ :

قوله تعالى : (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها)(١) أي أتّكىء عليها وأعتمد. وحقيقته من الوكاء ، وهو رباط الشيء. ومنه وكاء السّقّاء. وفي الحديث : «العينان وكاء السّه» (٢) أي بمنزلة الوكاء. فمعنى توكّأ على العصا : تسدّد بها وتقوّى. وفي المثل : «يداك أوكتا وفوك نفخ» (٣) قيل في رجل نفخ في زقّ وربطه ، فسبح عليه في الماء فانحلّ رباطه ، فقيل له : «يداك أوكتا وفوك نفخ». يضرب لكلّ من لم يحتط في أمره. وفي معناه قول الآخر : [من الوافر]

لنفسك لم ولا تلم المطايا

ومت كمدا فليس لك اعتذار

و ك د :

قوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)(٤) أي تقويتها وإحكامها. يقال : وكّدت القول وأكّدته ـ بالواو والهمز ـ نحو : ورّخ وأرّخ ـ بمعنى أحكمته وقوّيته. ومنه التوكيد الاصطلاحيّ ؛ فإنه تقوية المعنى في النفس. وقد فرّق الخليل بين الواو والهمز فقال : «أكّدت» في الأيمان أجود ، و «وكّدت» في القول أجود. تقول إذا عقدت : أكّدت وإذا حلفت : وكّدت ؛ نقله الراغب (٥) وفيه نظر ؛ فإنّ القراء كلّهم على الواو في الآية الكريمة ، ولا يقال توكيدا. انتهى. يعني أنه اختصّ بهذا اللفظ بالهمز دون الواو ، وفيه نظر ؛ إذ ليس في النطق باللغة الأخرى حجر. وفي الحديث ، وقد ذكر طالب العلم : «قد أوكدتاه يداه ، وأعمدتاه رجلاه» (٦). أوكدتاه ، أعملتاه. يقال : وكّد فلان أمرا : قصده : وما زال هذا وكدي ، أي دأبي وقصدي. وأما الوكد ـ بالفتح ـ فمصدر. ووكد فلان وكد فلان : قصد قصده وتخلّق بخلقه.

__________________

(١) ١٨ / طه : ٢٠.

(٢) النهاية : ٥ / ٢٢٢ ، جاءت في مادة (وك ي) وهو الصواب ، وفيه «العين». جعل اليقظة للاست كالوكاء للقربة. والسّه : حلقة الدبر.

(٣) المستقصى : ٢ / ٤١٠.

(٤) ٩١ / النحل : ١٦.

(٥) المفردات : ٥٣١.

(٦) النهاية : ٥ / ٢١٩.

٣٨٦

و ك ز :

قوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى)(١) أي ضربه بعصا. والمشهور ضربه بجمع كفّه. يقال : لكزه ، أي ضربه ببعضه ، ووكزه بكلّه. وقيل : الوكز : الدّفع بجمع الكفّ.

و ك ل :

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٢) الباء مزيدة في فاعل كفى ، ووكيلا تمييز ، أي كفى بالله متوليا أمور خلقه ؛ فإنّ الوكيل عبارة عمّن يعتمد عليه في الأمور المهمة. وقيل : معناه اكتف به أن يتولّى أمرك ويتوكّل عليك. قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٣) أي بموكّل عليهم وحافظ لهم ، بل عليك البلاغ. وهذا تسلية له لأنّه عليه الصلاة والسّلام كان حريصا على سعادتهم دنيا وأخرى. فأبوا إلا الشقاء. ونظيره : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٤).

قوله : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(٥) قال الراغب (٦) : أي من يتوكّل عنهم؟ وفي اللفظ نبوّ عن هذا. قال : والتوكيل يقال على وجهين ؛ يقال : توكّلت لفلان بمعنى تولّيت له. ويقال : وكّلته فتوكّل لي. وتوكّلت عليه : اعتمدته. قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٧). قوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً)(٨). قال الفراء : أي كفيلا. وهذا لم يرتضه الراغب ؛ فإنه قال : وربّما فسّر الوكيل بالكفيل ، والوكيل أعمّ لأنّ كلّ وكيل كفيل وليس كلّ كفيل وكيلا.

وواكل فلان : ضيّع أموره باعتماده على [غيره](٩). وتواكلوا : إذا اتّكل بعضهم على بعض. ورجل وكلة : إذا كان معتمدا على غيره في أموره. وفي الحديث : «فتواكلا

__________________

(١) ١٥ / القصص : ٢٨.

(٢) ٣ / الأحزاب : ٣٣ ، وغيرها.

(٣) ٤١ / الزمر : ٣٩.

(٤) ٢٢ / الغاشية : ٨٨.

(٥) ١٠٩ / النساء : ٤.

(٦) المفردات : ٥٣١.

(٧) ٥١ / التوبة : ٩.

(٨) ٢ / الإسراء : ١٧.

(٩) إضافة مناسبة للسياق.

٣٨٧

الكلام» (١) أي اتّكل كلّ منهما على صاحبه في ذلك. واتّكل أصله اوتكل فقلبت الواو ياء وأدغمت في تاء الافتعال. فوزنه افتعل. والوكل : الجبان ؛ قال الشاعر : [من البسيط]

كابن دعيت إلى بأساء داهية

فما انبعثت بمرؤود ولا وكل

لأنّ الجبان يتّكل على شجاعة غيره. يقال : وكل ووكل ـ بفتح العين وكسرها ـ قال شمر : أي بليد. وفي مقتل الحسين رضي الله تعالى عنه وعن آبائه الكرام قال قاتله لعنه الله تعالى لعنا كثيرا ، وهو سنان بن أنس ، للحجاج ـ : «وولّيت رأسه أمرا غير وكل» (٢). قال الهرويّ : الوكال : البلادة. وقد واكلت الإبل : إذا أساءت السّير. وقال الراغب (٣) : الوكال في الدابة : ألّا تمشي إلا بمشي غيرها.

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا)(٤) أي كلوا أموركم إليه. يقال : توكّل فلان بالأمر : إذا ضمن القيام به. ووكّل فلان فلانا ، أي وكل أمره إليه يستكفيه إياه ، فربّما يكون ذلك لضعف في الموكّل. وربّما يكون ثقة بالكفاية. وقال ابن عرفة في قوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي لا تجعلون شريكا لي تكلون أموركم إليه. وقال غيره : أي كافيا. وقال الفراء : كفيلا. وقد تقدّم فيه بحث.

فصل الواو واللام

و ل ت :

قوله تعالى : (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ)(٥) قرأ غير أبي عمرو «يألتكم» (٦) فقيل : من ولته يلته ، أي نقصه حقّه وبخسه إياه. وعلى هذا فهي من مادة الولت. وقيل : هو من لاته

__________________

(١) النهاية : ٥ / ٢٢١ ، والحديث للفضل بن العباس وابن ربيعة.

(٢) النهاية : ٥ / ٢٢٢.

(٣) المفردات : ٥٣٢.

(٤) ٢٣ / المائدة : ٥.

(٥) ١٤ / الحجرات : ٤٩.

(٦) قرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» وهي لغة غطفان وأسد (البحر المحيط : ٨ / ١١٧). وذكر الفراء أن القراء مجمعون على «لا يلتكم» (معاني القرآن : ٣ / ٧٤).

٣٨٨

يليته ، نحو باعه يبيعه بمعنى نقصه أيضا. فعلى الأول المحذوف من الكلمة فاؤها ، ووزنها يعلكم. وعلى الثاني المحذوف منها عينها ووزنها يفلكم. وفيه لغة ثالثة : ألاته يليته كأباعه يبيعه. ولغة رابعة : أألته يؤلته ؛ بالكسر في الماضي والفتح في المضارع.

و ل ج :

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(١). قال أبو عبيد : أي ليل الصيف في نهاره ونهار الشتاء في ليله. والإيلاج : الإدخال. قال الراغب (٢) : الدخول في مضيق ، كقوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(٣). وغيره : تفسير بمطلق الدخول. قال : قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) تنبيه على ما ركّب الله تعالى عليه العالم من زيادة الليل في النهار. وزيادة النهار في الليل ، وذلك بحسب مطالع الليل ومغاربه. قوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ)(٤) أي يدخل فيه من المطر وحشراتها وأناسيّها. قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)(٥) أي بطانة وخاصّة. والوليجة : الدّخيلة ؛ يقال : فلان وليجة فلان ، أي بطانته ، أي يداخله في أموره. وقال الراغب : والوليجة : كلّ ما يتّخذه الإنسان معتمدا عليه ، وليس من قولهم : فلان وليجة في القوم : إذا دخل فيهم ، وليس منهم إنسانا كان أو غيره. قال تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الآية (٦) وذلك مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ)(٧).

ورجل ولجة خرجة : كثير الدخول والخروج. وفي حديث عبد الله : «إيّاك والمناخ على ظهر الطريق فإنّه منزل للوالجة» (٨). الوالجة : السّباع والحيّات. سميت بذلك لولوجها فيها واستتارها بها. والولج : ما ولجت فيه من كهف وشعب ونحوهما.

__________________

(١) ٦١ / الحج : ٢٢.

(٢) المفردات : ٥٣٢.

(٣) ٤٠ / الأعراف : ٧.

(٤) ٢ / سبأ : ٣٤ ، وغيرها.

(٥) ١٦ / التوبة : ٩.

(٦) من الآية السابقة.

(٧) ٥١ / المائدة : ٥.

(٨) النهاية : ٥ / ٢٢٤ ، والحديث لعبد الله بن مسعود.

٣٨٩

و ل د :

قوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)(١) قيل : الوالد آدم عليه‌السلام ، وما ولد ولده. وجمهور النحويين يأبون وقوع «ما» على العاقل إلا في مواضع. وقال الراغب (٢) : قيل : آدم وما ولد من الأنبياء. انتهى. كأنّه خصّ ذلك لأجل الإقسام بهم. وقال الهرويّ وما ولد من نبيّ وصدّيق وشهيد ومؤمن. قلت : هذا أوسع ممّا تقدّم ، ألا أنه خصّصه أيضا حتى لا يقع الإقسام بالكفار ، إذ الإقسام بالشيء تعظيم له. قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ)(٣). الولد : فعل بمعنى المفعول ، نحو القبض والنّقض. والولد يقع على الذكر والأنثى ، واحدا كان أو أكثر كقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) هذا استفهام بمعنى نفي الولد عن ذاته المقدّسة بأيّ صفة كان من ذكورته ووحدته وغيرهما.

قوله تعالى : (لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً)(٤) قرىء بفتح الواو واللام ، وبضمّ الواو وسكون اللام. فقيل : لغتان بمعنى كالعدم والعدم ، والرّشد والرّشد ، والعرب والعرب. وقيل : الولد ـ بالضم ـ جمع ولد ـ بالفتح ـ كأسد جمع أسد. والولد يقال للمتبنّى به كقوله تعالى : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)(٥). وقيل : بمنزلة الولد في الحنوّ والشّفقة عليه. ويقال للأب والد وللأمّ والدة ، وهما والدان كقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(٦).

قوله تعالى : (يَوْمَ وُلِدْتُ)(٧) وقوله : (يَوْمَ وُلِدَ)(٨) الآيتين. قيل : إنّما وقع السّلام عليهما في هذه الثلاثة مواطن ، لأنّ الإنسان أكثر ما يكون مستوحشا فيها. فالأول فيه مفارقة ما ألف من الرحمة والشيمة إلى دار التّعب والكدّ ومعاناة الهموم. والثاني مفارقة ما ألف من

__________________

(١) ٣ / البلد : ٩٠.

(٢) ليس من المفردات.

(٣) ١٠١ / الأنعام : ٦.

(٤) ٢١ / نوح : ٧١.

(٥) ٩ / القصص : ٢٨.

(٦) ١٥١ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٧) ٣٣ / مريم : ١٩.

(٨) ١٥ / مريم : ١٩. ويريد بقيتهما.

٣٩٠

الدنيا إلى القبر وما يتضمّنه من أهواله. والثالث : مفارقته إلى موضع الحشر ودار الجزاء من ثواب وعقاب.

واللّدة من وقت ولادتك كالتّرب ، وشذّ جمعه في لدين (١) ؛ يقال : هذا لدة هذا (٢). واللّدة في الأصل مصدر خصّ بما ذكرته لك. يقال : ولدت ولادة ولدة. وفي حديث رقيقة : «إلا وفيهم الطّيب الطّاهر لداته» (٣) قال الهرويّ : يريد موالده ؛ جعل المصدر اسما ثم جمعه. وقال بعضهم : واللّدة مختصّة بالتّرب. فظاهر هذا أنها اسم لا مصدر. قوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ)(٤) قيل : هم أطفال الكفار يكونون خدم أهل الجنّة. وقيل : هم خلق من خلق الجنّة. وهم جمع وليد. والوليد اشتهر استعماله في من قرب عهده بالولادة. قال الراغب (٥) : وإن كان في الأصل يصحّ لمن قرب عهده أو بعد. والوليدة مختصة في عامّة كلامهم بالأمة. قلت : ومنه قول النابغة (٦) : [من البسيط]

ضرب الوليدة بالمسحاة في الثّأد

وفي حديث شريح : «أن رجلا اشترى جارية بشرط أنها مولّدة ، فإذا هي تليدة» (٧). قال القتيبيّ : التليدة : التي ولدت ببلاد العجم وحملت فنشأت ببلاد العرب (٨). والوليدة : التي ولدت في الإسلام. قال ابن شميل : هما واحد ، وهما من ولد عبدك. وأثر شريح يردّه. وقال غيره : سمي المولّد بذلك لأنه يتربّى عندك تربية الأولاد. وفي الإنجيل لعيسى عليه‌السلام : «أنا ولّدتك» (٩) بتشديد اللام ، أي ربّيتك. ونقلت عن بعض مشائخي أنّ

__________________

(١) وذكر ابن منظور معها لدات.

(٢) الهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله ، وهما لدان.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٥٦ ، وفي الأصل : والطاهر.

(٤) ١٩ / الإنسان : ٧٦.

(٥) المفردات : ٥٣٢.

(٦) عجز من معلقته ، وصدره كما في الديوان : ٤ :

ردّت عليه أقاصيه ولبّده

الثأد : الندى.

(٧) النهاية : ٥ / ٢٢٥ ، وفيه ، «وشرطوا» ، والهروي «وشرط».

(٨) وفي ح : العجم ، وهو سقط قلم.

(٩) النهاية : ٥ / ٢٢٥.

٣٩١

الرشيد قال لولده : يا بنيّ تعلّم العربية فإنّ النصارى رأوا في الإنجيل «ولّدتك» بالتّشديد فخفّفوها بجهلهم فكفروا أجمعون. والمولّد من الكلام ما استحدث. والمولّد من الشعر ما كان من الإسلاميين ، والمخضرم من أدرك الجاهلية والإسلام.

و ل ق :

قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)(١) العامّة : «تلقّونه» على أنّه من التّلقّي. وعائشة رضي الله تعالى عنها : (تَلَقَّوْنَهُ)(٢) من الولق. والولق قيل : هو الإسراع في الكذب. وقيل : هو الاستمرار فيه ، وهو في الأصل : الجنون والهوج. وجاءت الإبل تلق ، أي تسرع لهوجها. وأنشد (٣) : [من الرجز]

جاءت به عنس [من الشام] تلق

أي تسرع.

ورجل مولوق ومألوق ، وناقة ولقى ، أي سريعة. وفي حديث عليّ كرم الله وجهه : «كذبت وولقت» (٤). وهذا كقول الآخر (٥) : [من الوافر]

وألفى قولها كذبا ومينا

ومثله الولع ، ومنه قول كعب رضي الله عنه (٦) : [من البسيط]

لكنّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل

__________________

(١) ١٥ / النور : ٢٤.

(٢) يريد : قراءة السيدة عائشة (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٢٤٨).

(٣) جزء من رجز للشماخ يقوله في هجاء جليد الكلابي كما في اللسان ـ مادة ولق. ونسبه ابن منظور في مادة زلق إلى القلاخ بن حزن المنقري. ومذكور في معاني القرآن. يقول :

إن الجليد زلق وزمّلق

جاءت به عنس من الشام تلق

مجوّع البطن كلابيّ الخلق

(٤) النهاية : ٥ / ٢٢٦.

(٥) عجز لعدي بن زيد ، وصدره كما في اللسان ـ مادة مين ، وليس في الديوان :

فقدّدت الأديم لراهشيه

(٦) ديوان كعب : ٨. سيط : خلط. الفجع : المصيبة. الولع : الكذب.

٣٩٢

وفي هذا الحرف (١) قراءات ولها توجيهات استوفيتها في «الدرّ».

و ل ي :

قوله تعالى : (فَنِعْمَ الْمَوْلى)(٢) المولى يطلق بإزاء معان ؛ قيل على سبيل الاشتراك اللفظيّ. وقيل : على التّواطؤ. فالمولى : الناصر والمنعم وابن العمّ والحليف والعقيد. ومنه قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ)(٣). وكانوا يتوارثون بالحلف أول الإسلام ثم نسخ. والمولى : هو السيد المعتق والعبد المعتق. قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ)(٤) قيل : أراد بني عمّه وعصبته. ومعناه : الذين يلونه في النسب. قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(٥). فالمولى هو الناصر. وقيل : وليّهم والقائم بأمرهم. وكلّ من تولّى أمرك فهو مولاك. وقال الراغب (٦) : الولاء والتّوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما. قال : ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسب ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنّصرة والاعتقاد. والوليّ والمولى يستعملان في كلّ ذلك. وكلّ منهما يقال في معنى الفاعل ، أي الموالي ، وفي معنى المفعول أي الموالى. إلا أنه فرّق بينهما بشيء ؛ فقال : يقال : المؤمن وليّ الله ولا يقال : مولاه. ويقال : الله وليّ المؤمن ومولاه.

فمن الأول : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)(٧) وقوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى)(٨). ومن الثاني : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ)(٩). قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(١٠). قيل : مالكم من موالاتهم ونصرتهم. وقرىء بفتح الواو وكسرها ؛ فقيل : هما

__________________

(١) وفي الأصل : وفي حديث.

(٢) ٧٨ / الحج : ٢٢.

(٣) ٣٣ / النساء : ٤.

(٤) ٥ / مريم : ١٩.

(٥) ١١ / محمد : ٤٧.

(٦) المفردات : ٥٣٣.

(٧) ٢٥٧ / البقرة : ٢.

(٨) ٧٨ / الحج : ٢٢.

(٩) ٦ / الجمعة : ٦٢.

(١٠) ٧٢ / الأنفال : ٨.

٣٩٣

بمعنى نحو الدّلالة والدّلالة. ومعناها : توالي الأمر. وقيل : بالفتح النصرة ، وبالكسر توليّ الأمر. وقال الأزهريّ : بالفتح في النسب (١) والنصرة. يقال : وليّ من الولاية. وأمّا الولاية فهي الإمارة. ويقال : وال من الولاية. فشبّه بالصّناعة. قوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(٢) أي وليّ ، يعني ناصرا وقائما بأمورهم ، نحو قادر وقدير.

قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ)(٣) قال أبو بكر : معناه : يخوّفكم أولياؤه ، فحذف أول مفعوليه ؛ إما اقتصارا أو اختصارا. وقال غيره : إنّ المفعولين محذوفان.

والتقدير : يخوّفكم الشرّ بأوليائه. قال الراغب (٤) : ونفى الله الولاية من المؤمن والكافر في غير آية ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ)(٥). وجعل بين الكافرين والشياطين موالاة في الدّنيا ، ونفى عنهم الموالاة في الآخرة. قال تعالى في الموالاة بينهم في الدنيا : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٦). فكما جعل بينهم وبين الشياطين موالاة جعل للشياطين عليهم سلطانا في الدّنيا ، فقال : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)(٧). ونفى الموالاة بينهم في الآخرة فقال في موالاة الكفار بعضهم بعضا : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً)(٨).

قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ)(٩) أي أعرض. قال بعضهم : «تولّى» إذا عدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع. يقال : ولّيت سمعي كذا ، وولّيت عيني كذا : أقبلت به عليه. قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١٠). قال : وإذا عدّي بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الإعراض وترك قربه. فمن الأول قوله تعالى :

__________________

(١) ساقطة من ح.

(٢) ١١ / الرعد : ١٣.

(٣) ١٧٥ / آل عمران : ٣.

(٤) المفردات : ٥٣٤.

(٥) ٥١ / المائدة : ٥.

(٦) ٢٧ / الأعراف : ٧.

(٧) ١٠٠ / النحل : ١٦.

(٨) ٤١ / الدخان : ٤٤.

(٩) ٨٤ / يوسف : ١٢.

(١٠) ١٤٤ / البقرة : ٢.

٣٩٤

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)(١). ومن الثاني : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٢). قال : والتّولّي قد يكون بالجسم ، وقد يكون بترك الإصغاء والائتمار ؛ قال تعالى : (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)(٣) أي لا تفعلوا ما فعل الموصوفون بقوله : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا)(٤). ولا ترتسموا قول من حكى عنهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)(٥).

وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)(٦) أي أنّنا نكون من أوليائك. قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ)(٧) أي ناصر من الذلّ ، ولا مانع له لاعتزازه. وقيل : لم يوال أحد من أجل مذلّة. وقوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٨) من هذا. ومعناه : العقاب أولى لك وبك. قال الراغب (٩) : وقيل : هذا فعل المتعدّي بمعنى افعل. يقال : ولي الشيء الشيء ، وأوليت الشيء شيئا آخر ، أي جعلته إليه. وقيل : معناه انزجر. وقيل : هذه كلمة تهديد. وقال الأصمعيّ : قاربك فاحذره ؛ مأخود من الوليّ وهو القرب. وإعراب الكلمة أنّ «أولى» مبتدأ ، و «لك» خبره على معنى القرب من العذاب مستقرّ لك. وقيل : «أولى» خبر لمبتدأ مضمر ، أي العذاب أولى لك وبك من غيره. و «فأولى» عطف عليه على سبيل التأكيد المعنويّ. وفي هذا الحرف أقوال كثيرة حررتها في «الدرّ المصون» وغيره.

قوله تعالى : (هُوَ مُوَلِّيها)(١٠) أي متولّيها. والتّولية تكون إقبالا لهذه الآية ، أي مستقبلها. ويكون انصرافا إذا عدّيت بعن ، وقد تقدّم. قوله تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ

__________________

(١) ٥١ / المائدة : ٥.

(٢) ٦٢ / آل عمران : ٣.

(٣) ٢٠ / الأنفال : ٨.

(٤) ٧ / نوح : ٧١.

(٥) ٢٦ / فصلت : ٤١.

(٦) ٥ / مريم : ١٩.

(٧) ١١١ / الإسراء : ١٧.

(٨) ٣٤ / القيامة : ٧٥.

(٩) المفردات : ٥٣٥ ، وفيه : «... بمعنى انزجر» ، وسيأتي.

(١٠) ١٤٨ / البقرة : ٢.

٣٩٥

مِنْهُمْ)(١) أي تحمّل وزره من قولهم : تولّى الأمر ، أي وليه وتبعه. وفي الحديث : «ألحقوا المال بالفرائض فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر» (٢) يعني أدنى وأقرب في النّسب. وفي الحديث أيضا : «سئل عن الإبل فقال : أعنان الشياطين ، لا تقبل إلا مولّية ولا تدبر إلا مولّية» (٣) قيل : هو كالمثل المضروب فيها ، قاله الهرويّ : وفي حديث ابن عمر «أنّه كان يقوم له الرجل من لية نفسه فلا يقعد مكان نفسه» (٤) قال الأزهريّ : هو عندي فعله من الحروف الناقصة أوائلها. وهو من ولي يلي ، مثل دية وشية (٥). وقال ابن الأعرابيّ : يقال : فعل كذا من إلية نفسه ، أي من قبل نفسه ؛ كأنّ الواو جعلت همزة. وفي الحديث : «نهى أن يجلس الرجل على الولايا» (٦) هو جمع وليّة ، والوليّة : البرذعة ، لإنها تلي ظهر الدابة. وهذا كناية عن المكث على ظهور الدوابّ. والولاء في العتق استحقاق العتق. وورّثته المال العتيق مأخوذ من الوليّ وهو القرب والأحقّيّة. وفي الحديث : «نهى عن بيع الولاء وهبته» (٧) وكانت الجاهلية تفعل ذلك فنهاهم.

فصل الواو والنون

و ن ي :

قوله تعالى : (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)(٨) أي لا تفترّا ولا تضعفا. يقال : ونى في الأمر يني : إذا ضعف فيه وقصّر في تحصيله ونيا ، وتواني توانيا. والأصل توانيا بضمّ النون فكسرت لتصحّ الياء. والونى بفتح الفاء والعين : الفتور أيضا. وزعم بعض النحويين أنّ

__________________

(١) ١١ / النور : ٢٤.

(٢) النهاية : ٥ / ٢٢٩.

(٣) النهاية : ٥ / ٢٣٠.

(٤) النهاية : ٤ / ٢٨٦ ، وفيه : «... فلا يقعد في مكانه».

(٥) أي أنهم حذفوا الواو وعوضوا منها الهاء ، فأصلها ولية.

(٦) النهاية : ٥ / ٢٣٠.

(٧) النهاية : ٥ / ٢٢٧ ، يعني ولاء العتق.

(٨) ٤٢ / طه : ٢٠.

٣٩٦

ونى يجيء بمعنى زال الناقصة فتعمل بعد النفي وشبهه. يقال : ما ونى زيد قائما ، أي ما زال قائما. وأنشد : [من الخفيف]

لا يني الحبّ شيمة الحبّ ما دا

م فلا تحسبنّه ذا ارعواء

فصل الواو والهاء

و ه ب :

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ)(١). الهبة : أن تجعل الملك لغيرك من غير عوض. يقال : وهبته هبة وموهبا (٢). وقوله تعالى : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)(٣). قرىء بإسناد الفعل إلى المتكلم وهو جبريل لأنّه سبب في ذلك وبإسناده إلى الباري تعالى. فالأول على التوسّع ، والثاني على الحقيقة.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(٤) هو كثير الهبة ، أي العطية من غير استحقاق عليه ، بل هو تفضّل منه على خلقه. فوصف الله تعالى بالوهاب والواهب على هذا النحو. وقال الراغب : ويوصف الله تعالى بذلك ، يعني أنه يعطي على قدر استحقاقه. وفي الحديث : «لقد هممت ألّا أتّهب إلا من قرشيّ أو أنصاريّ أو ثقفي» (٥) الاتّهاب : قبول الهبة (٦). وقد روى الهرويّ هذا الحديث ولم يذكر «إلا من قرشي» فقط. وقال في تفسيره : يقول : لا أقبل الهدية ، وذلك أنّ في أخلاق أهل البادية جفاء وذهابا عن المودة وطلبا للزيادة.

__________________

(١) ٨٤ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٢) وموهبة.

(٣) ١٩ / مريم : ١٩.

(٤) ٨ / آل عمران : ٣.

(٥) النهاية : ٥ / ٢٣١.

(٦) أصلها الاوتهاب من الفعل أو تهب.

٣٩٧

و ه ج :

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً)(١) اشتعالها. والمعنى : جعلنا سراجا مضيئا قويّ الضوء. والمعني به الشمس. الوهج : حصول الضوء وقوّته. وقد وهجت النار توهج ، ووهجت تهج ، أي اتّقدت. وأنشد (٢). وتوهّجت الحرب ، على الاستعارة نحو : توقّدت. وتوقّد الجوهر ، أي تلألأ توقّدا.

و ه ن :

قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(٣) أي ضعف ورقّ. وقال بعضهم : الوهن : ضعف من حيث الخلق والخلق. قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ)(٤) أي ضعفا على ضعف. والمعنى أنه كلّما عظم في بطنها زادها ضعفا. قال قتادة : جهدا على جهد. يقال : ضعفت لحملها إياه مرة بعد مرة. قوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا)(٥) أي لا تضعفوا ولا تجبنوا. قال الفراء : يقال : وهنه الله وأوهنه. وفي الحديث : «أنّ فلانا دخل عليه وفي عضده حلقة من صفر. فقال : هذا من الواهنة. فقال : أما إنّها لا تزيدك إلا وهنا» (٦) قيل : الواهنة : عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلّها فيرقى منها. وقيل : هو مرض يأخذ في عضد الرجل ، وربّما عقد عليها جنس من الخرز يقال : خرز الواهنة. وهي تأخذ الرجال دون النساء.

و ه ي :

قوله تعالى : (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ)(٧) أي منشقّة ضعيفة. وأصل ذلك من الوهي وهو

__________________

(١) ١٣ / النبأ : ٧٨.

(٢) بياض في الأصل قدر شطر ، ولعله يريد (من اللسان ـ مادة وهج) :

مصمقرّ الهجير ذو وهجان

(٣) ٤ / مريم : ١٩.

(٤) ١٤ / لقمان : ٣١.

(٥) ١٣٩ / آل عمران : ٣.

(٦) النهاية : ٥ / ٢٣٤ ، والحديث لعمران بن حصين.

(٧) ١٦ / الحاقة : ٦٩.

٣٩٨

شقّ الأديم والثوب ونحوهما ، ومن ذلك قولهم : وهت عزالي السماء بمائها (١) ، وذلك على الاستعارة.

فصل الواو والياء

و ي ل :

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٢). الويل : القبوح والتّعس. قال الأصمعيّ : ويل قبوح. وقد تستعمل على التحسّر وويس استصغار ، وويح ترحّم. وقال بعضهم : ويل : واد في جهنّم. قال الراغب (٣) : ومن قال : ويل واد في جهنّم فإنه لم يرد أنّ ويلا في اللغة موضوع لهذا وإنّما أراد من قال الله ذلك فيه فقد استحقّ مقرا من النار وثبت له ذلك. وقال ابن كيسان : قال ثعلب : قال المازنيّ : قال الأصمعيّ : الويل قبوح ، والويح ترحّم. وويس تصغيرها ، أي هي دونها. وقال الهرويّ في قوله عليه الصلاة والسّلام لعمار : «ويح ابن سميّة تقتله الفئة الباغية» (٤) توجّع له. وويح : كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقّها فيترحّم عليه ويرقّ له. وويل تقال لمن يستحقّها ولا يترحّم عليه. وقال سيبويه : ويح كلمة زجر لمن أشرف على الهلكة ، وويل لمن وقع في الهلكة. وقال ابن عرفة : الويل : الحزن والمكروه. وأنشد (٥) : [من الوافر]

تويّل إن مددت يدي وكانت

يميني لا تعلّل بالقليل

تويّل ، أي دعا بالويل. وإنّما يفعل ذلك عند شدّة الحزن. وعن ابن عباس : الويل : المشقّة من العذاب. والويلة تأنيث الويل ؛ يقال : ويل وويلة. قال تعالى : (يا وَيْلَتَنا)(٦)

__________________

(١) يقال للسحاب إذا تبعّق بالمطر تبعقا أو انبثق انبثاقا شديدا : قد وهت عزاليه. وإذا استرخى رباط الشيء يقال : وهى.

(٢) ١ / المطففين : ٨٣.

(٣) المفردات : ٥٣٥.

(٤) النهاية : ٥ / ٢٣٥.

(٥) اللسان ـ مادة ويل.

(٦) ٤٩ / الكهف : ١٨.

٣٩٩

وقوله تعالى : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً)(١) يريد : يا ويلتي ، فقلبت الياء ألفا وهي لغة فصيحة. والمعنى : يا ويلتا ، تعالي فهذا وقتك (٢). وقال الفراء : الأصل في الويل و ي ، أي حزن. كما نقول : و ي لفلان ، أي حزن له. فوصلته العرب باللام ، وقدّروا أنها منه فأعربوها.

و ي :

قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ)(٣) قال قطرب : وهي كلمة تفجّع ، وكأنّ حرف تشبيه ، إلا أنّه لم يرتضه. وقال غيره : أصلها ويلك ، فحذفت اللام. ومنه قول عنترة (٤) : [من الكامل]

ويك عنتر أقدم

وقيل : و ي كلمة تعجب اسم فعل مضارع بمعنى أعجب. والكاف بمعنى لام العلّة ، أي أعجب لأنّه لا يفلح. واختلف الرسم في وصل «وي» بكلمة «كأنّ» وفصلها. وقال الهرويّ : و ي كلمة تذكير للتحيّر والتندّم والتعجب. وقد ذكرنا للناس أقوالا كثيرة في هذا الحرف في «الدرّ المصون» و «العقد النضيد» وغيرهما. فعليك باعتماده ثمّة.

__________________

(١) ٢٨ / الفرقان : ٢٥.

(٢) كأنه نادى الويل أن يحضره لما عرض له.

(٣) ٨٢ / القصص : ٢٨.

(٤) الديوان : ١٥٤ ، من معلقته. وتمامه :

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس : ويك عنتر أقدم

٤٠٠